حكم الإمام علي بن أبي طالب: دروس خالدة في الحكمة والعدل والإنسانية

يُعد الإمام علي بن أبي طالب من أبرز رموز الفكر الإسلامي والإنساني في التاريخ، لا بسبب مكانته كابن عم النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصهره فحسب، بل لما تميزت به شخصيته من عقل راجح، وعدالة صارمة، وبصيرة نافذة، ولسان فصيح لا يُضاهى. تتجلى عبقرية الإمام علي في أقواله وحكمه التي أصبحت تراثًا خالدًا تناقلته الأجيال، واستُشهد بها في ميادين الأخلاق والسياسة والاجتماع والعلم. هذه الحكم لم تكن مجرد أقوال تُقال، بل كانت خلاصة تجربة حياة مفعمة بالجهاد والفكر والإيمان، وتعكس بعمق جوهر الإسلام كدينٍ للعدالة والكرامة والمعرفة.

في هذا المقال، سيتم التطرق إلى جملة من حكم الإمام علي بن أبي طالب وتحليل مضامينها الفكرية والروحية، مع إبراز عمق رؤيته في مجالات متعددة مثل الأخلاق، السياسة، الزهد، العدل، والعلاقة بالناس. كما سيتم تتبع الأثر الذي تركته هذه الحكم في الثقافة الإسلامية، وفي بناء منظومة القيم التي ألهمت الكثير من المفكرين والمصلحين على مر العصور.

أولًا: الخلفية التاريخية لشخصية الإمام علي

وُلد الإمام علي بن أبي طالب في مكة المكرمة داخل الكعبة الشريفة، في سابقة تاريخية فريدة، ويُعد أول من أسلم من الصبيان. نشأ في كنف النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وشهد معه كل مراحل الدعوة الإسلامية. تميز الإمام علي بالشجاعة في المعارك والوفاء في السلم، وكان من أقرب الناس إلى النبي علمًا ومودة. تولى الخلافة بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان في فترة شديدة الاضطراب السياسي والاجتماعي، حيث واجه الفتن والصراعات الداخلية التي عصفت بوحدة الأمة الإسلامية.

ورغم قصر مدة خلافته مقارنة بسابقيه، إلا أنها تميزت باتساع فكره السياسي، وصرامته في إقرار العدل، ورفضه القاطع للمحاباة أو الظلم، بل وقيادته الفكرية التي وضعت أسسًا فلسفية عميقة للحكم الرشيد والعلاقة بين الحاكم والمحكوم.

ثانيًا: خصائص الحكمة العلوية

حكم الإمام علي لا يمكن فصلها عن سياقها الأخلاقي والروحي، فهي ليست مجرد عبارات بل مواقف. ويمكن تصنيف هذه الحكم ضمن محاور متعددة:

1. الحكمة الأخلاقية

الإمام علي يرى أن الأخلاق هي أساس الإنسان، ومن أشهر أقواله في هذا السياق:

“قيمة كل امرئ ما يُحسن.”

تعكس هذه العبارة تصوره العميق للكرامة الإنسانية، حيث لا تُقاس قيمة الإنسان بنسبه أو ماله، بل بمدى إتقانه وعطائه. ومن أقواله أيضًا:

“من كساه الحياء ثوبه، لم ير الناس عيبه.”

وهنا يدعو الإمام إلى التحلي بالحياء كدرع يحفظ كرامة الإنسان، ويردع النفس عن الانزلاق إلى مواضع السوء.

2. الحكمة السياسية

كان الإمام علي رائدًا في التفكير السياسي الإسلامي، وأقواله في هذا الباب تؤسس لنظرية متقدمة في الحكم. من أشهر أقواله:

“الملك يبقى مع الكفر، ولا يبقى مع الظلم.”

هذه العبارة تلخص فلسفة الإمام في أن عدالة الحاكم هي الأساس، لا الدين وحده. فالدولة العادلة، ولو كانت كافرة، قد تبقى؛ بينما الظلم يقوض أركان أي دولة، مهما كانت خلفيتها الدينية.

3. الحكمة في الزهد والتقشف

يُعد الزهد ركيزة من ركائز شخصية الإمام علي، وهو الذي عُرف عنه أنه كان يلبس الخشن من الثياب ويأكل الجشب من الطعام، ويقول:

“الدنيا دار ممر لا دار مقر.”

وهنا يدعو إلى عدم التعلق بالمظاهر والمال، فالدنيا مرحلة مؤقتة، يجب على الإنسان أن يجعل منها معبرًا للآخرة، لا أن يخلد فيها.

ثالثًا: الجوانب الفلسفية في حكم الإمام علي

تُعد حكم الإمام علي نواة مبكرة لفلسفة إسلامية تُعلي من شأن العقل، وترى فيه أداة لا غنى عنها للمعرفة والتقوى معًا. يقول:

“العقلُ عقلان: عقلٌ مطبوع، وعقلٌ مسموع، ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع.”

بهذا القول يُبرز الإمام أهمية الفطرة في تلقي العلم، فالعقل ليس فقط ما نتعلمه، بل ما نستبطنه في داخلنا كقدرة على التمييز والحكمة.

كما يشير في قول آخر:

“أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له.”

وهذه العبارة ليست مجرد تسلسل منطقي، بل نظام فكري متكامل يربط بين المعرفة والعقيدة، ويعطي للإيمان بعدًا عقلانيًا وروحيًا في آن.

رابعًا: حكم الإمام علي في العلاقات الاجتماعية

برز الإمام علي كأحد أعظم من تحدثوا عن حقوق الإنسان والعدل الاجتماعي، ليس بمفهومه الحديث، ولكن بجوهره الحقيقي. يقول:

“الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.”

هذا القول يتسم بعمق إنساني هائل، حيث لا يقتصر على المسلمين فقط، بل يشمل غيرهم ضمن دائرة الأخوة الإنسانية، وهو مفهوم يسبق دعوات حقوق الإنسان الحديثة بعدة قرون.

كما كان يوصي دائمًا باللين والرحمة، ويقول:

“القلب إن أفرط عليه الحزن أفسده، كما يفسد كثرة الماء الزرع.”

وهذا يُظهر اهتمام الإمام بالنفس البشرية، وضرورة الاعتدال في المشاعر كما في السلوك.

خامسًا: الجدول التحليلي لموضوعات الحكم العلوية

سادسًا: الأثر الثقافي والفكري لحكم الإمام علي

امتدت حكم الإمام علي لتشكل أساسًا لكثير من الحركات الإصلاحية والفكرية في التاريخ الإسلامي. فقد استفاد بها الفلاسفة والمتصوفة والأدباء، وأضحت جزءًا من كتب التراث مثل “نهج البلاغة” الذي جمعه الشريف الرضي، وهو من أعظم الكتب في البلاغة الإسلامية، حيث احتوى على خطب الإمام ورسائله وحكمه.

كما أن تأثير الإمام علي تجاوز العالم الإسلامي، فقد ترجم الكثير من حكمه إلى اللغات الغربية، واستُشهد بها في دراسات الفلسفة والعدالة والاجتماع. حتى المفكرين الغربيين مثل توماس كارليل وجرجي زيدان أبدوا إعجابهم العميق بحكمته.

سابعًا: حكم الإمام علي في التراث الصوفي

ارتبطت حكم الإمام علي أيضًا بالتصوف الإسلامي، فقد كان يُعد نموذجًا للزاهد العارف بالله. واستلهم منه المتصوفة مبادئ العشق الإلهي والتجرد عن الدنيا. يقول الإمام:

“لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينًا.”

وهذا القول يعبر عن مدى يقينه القلبي، وبلوغه مرحلة الإيمان المطلق، وهي من أسمى مراتب التصوف.

ثامنًا: الحكم العلوية والعدالة الاجتماعية

من أقواله العظيمة في مجال العدالة الاجتماعية:

“ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني.”

ويُعد هذا القول من أبلغ ما قيل في نقد الفجوة الطبقية والاحتكار، وهو يؤسس لفكر اجتماعي عادل يعترف بأن الفقر ليس قدرًا بل نتيجة ظلم اجتماعي. وقد استخدم المفكرون هذا القول في تحليلهم للأنظمة الاقتصادية والسياسية الظالمة.

تاسعًا: تأثير الحكم العلوية في الفكر السياسي الإسلامي

أسست أفكار الإمام علي لمدرسة متميزة في الفقه السياسي، تجمع بين الشفافية، والمحاسبة، والعدالة. في خطابه لمالك الأشتر عندما ولاه مصر، أوصى بوصايا تشكل أرقى ميثاق للحكم العادل، منها:

“واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم.”

هذا النص لا يتحدث فقط عن العدالة، بل عن رحمة الحاكم وتواضعه، ويقدم نموذجًا للحكم القائم على الأخلاق قبل السلطة.

عاشرًا: الخلاصة والرسالة المستمرة

تشكل حكم الإمام علي بن أبي طالب منظومة متكاملة من المبادئ التي لا تزال تحتفظ براهنيتها حتى اليوم. فهي تعبر عن رؤية إنسانية عميقة للحياة، ترتكز على العدالة، والتواضع، والرحمة، والعقلانية، والمعرفة. إنها ليست مجرد كلمات، بل مشروع نهضوي كامل، ينهض بالإنسان ليكون حرًا وعادلاً وعاقلاً وملتزمًا بقيم عليا.

وقد بقيت هذه الحكم تُستعاد في المحن، وتُتلى في الخطب، وتُدرس في الجامعات، وتُلهم القادة والمفكرين والمصلحين في سعيهم لبناء عالم أفضل تسوده العدالة والرحمة والحكمة.

المراجع:

1. الشريف الرضي، نهج البلاغة، جمع وشرح.

2. محمد جواد مغنية، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية.